الطلاب، بين التاريخ الحي والصلصال (الباهت)
من ضمن المواد الدراسية التي يدرسها طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة، ما كان يطلق عليها سابقاً «الفنية» وكانت تمثل متعة لجميع الطلاب، بما تمثله من استراحة نفسية وانعتاق، من ثقل التركيز النفسي والعقلي، لبعض المواد الأخرى التي تحتاج الىذلك والتي يبذل فيها المعلمون جهداً تحضيرياً مضنياً.
وكان من ضمن المواد المطلوبة من الطلاب لمادة الفنية مادة «الصلصال» وهي العجينة التي يقوم الطلاب بتشكيلها، كل حسب مقدرته الفنية والذوقية لتقديمها لتمثل مجهوده للمعلم.
الفارق بين هاتين المادتين في المدرسة، أن الطلاب في «الفنية» ينقلون تصوّراً من أذهانهم ويشكلونه بالصلصال، حسب أذواقهم وإبداعهم، فمنهم من يصنع تمثالاً لمنزله، ويضيف له ما يشاء من زخارف وجماليات «ليست موجودة بالواقع» ومنهم من يصنع تمثالاً لمجسّمات حيوانات، ويضفي عليها شيئاً «لإضحاك الطلاب الآخرين» ومنهم من يصنع تماثيل لأدوات حرفية «لا تمت لما شاهدها في الحياة العامة بشيء» وهكذا.
ولكن الطلاب أيضاً يدرسون ويتعلّمون في مادة التاريخ واقعاً مضى، وسيتعرض للعقاب منهم من لا تطابق إجابته مع ذلك الواقع، كما تعلّمه في تلك المادة، ولا يستطيعون تغيير الأحداث التاريخية، ويعجزون عن إضافة شيءٍ له، لا هم، ولا معلمُهم ولا مدرستُهم، بل ولو اجتمعت الدنيا كلها لما استطاعوا إلغاء جزءٍ ضئيل منه، ولو كان بخلاف مشتهاهم،
ومهما كانت إبداعات الطلاب بمادة «الصلصال» إلاّ أن أكثرها كانت تختفي وتُعدم مع جرس نهاية الحصة، إلاّ أن كثير من إبداعات الفنانين الذين اشتهروا بالنحت عبر التاريخ بقيت منحوتاتهم كرموز خالدة، لقدرتهم وإبداعهم، ولكنها دون حياة، بل ودون خوار أيضا..!
التاريخ والتراث وإن اختفت معالمه حيناً وظهر حيناً آخراً، ليس مادة صلصالية، ولا عجينة نستطيع تشكيلها بما يختمر في فكرنا أو تشتهي أنفسنا، ولا هو قابل للإضافة والنقيصة، فما يقوم به المؤرخون لا يشابه ما يقوم به النحّاتون، لاختلاف دور كل منهما عن الآخر، منهجاً وحرفيّة.
فالمؤرخون والمكتشفون يتحققون ويدوّنون واقعاً قائما سابقاً لهم، والنحّاتون يتخيّلون فيصنعون شيئاً لم يوجد، ولا يحجب إبداعهم ونحتّهم شيئ، لأنه من منطلق تخيّلي وذهني فقط.
صحيح إن التاريخ وتراثه الواقعي شيئٌ في دفاتر الماضي، ولكنه حيٌ بحقيقة وجوده وامتداده وحضاراته، سلبية كانت أم إيجابية، أما المنحوتات فستبقى رموزاً «باهتة» تمثل جزءاً من تاريخ ناحتيها وتخيّلاتهم فقط، وإن كان في ذلك متعة، أو فترة استراحة للطلاب في الصفوف الإبتدائية أو معارض الفنون التخيّلية، ولن تستطيع مزاحمة التراث الحقيقي للتاريخ الناطق.
٢٢ ذوالقعدة ١٤٣٧ هجري
تعليقات
إرسال تعليق