الوحدة الاجتماعية في التعليم والقضاء بمنطقة الأحساء في 200عام (*)
مدخل:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين و أصحابه المنتجبين.
بدأً لا بد من التأكيد على أمرين هما :
أولاً :
إن الوحدة الاجتماعية التي تظهر جليّة في كافة الأقطار الإسلامية – بما يوجد في هذه المجتمعات من تعدد وتنوع واضح– لهو من أهم معطيات المرونة التي أوجدتها ورسّختها ثوابت الدعوة المحمدية وعملت على نشرها في ثقافة الفرد المسلم لتكون منطلق علاقاته مع غيره من المسلمين و حتى مع غير المسلمين،
ومهما نقل لنا التاريخ من بعض الحوادث التي لا تنسجم مع هذه الوحدة فإن ذلك لا يشكل إلاّ الشذوذ عن القاعدة فهي حالة صراع نفوذ ومصالح تُلبس الأمور والبواعث لبوساً غير واقعها لتستدر به العواطف وليس الأمر كذلك ، و بمعنى آخر لا بد من إيجاد الحصانة الصادقة لرعاية هذه الحالة المتأصلة و رعاية مناخها الجميل وعدم
ثانياً:
إن موضوع البحث وهو الوحدة الاجتماعية (في حاضرة الأحساء لمدة قرنين من الزمن ) تمثل أصالة هذه الوحدة ولا تمثل شذوذاً ، و الغرض من التحديد هو حصر المادة حسب الإمكان.
و في هذه البحث من خلال ما يأتي، صورة من صور الانسجام الاجتماعي والقدرة على التكيّف التي استطاع من خلالها هذا المجتمع من تجسيد لهذه الثقافة الوحدوية والتكيّف بالانسجام في محيط غير موحّد مذهبياً ومتنوع ، حيث يمكن اعتبار أصل العلاقة بين الأفراد وبين المجتمعات هو السِلْم والتسالُم ، وبسبب هذه القاعدة استمر وجود الإنسان و دام بقاؤه حتى الآن لكثرة مع ما طرأ من توتّرات وساد من اختلافات حادة وحروب طاحنة عبر التاريخ بين الأمم وبين عدد من الدول و بين المجتمعات وبين الأفراد.
كما أن كافة التشريعات التي جاءت بأحكام الحرب و في كافة الديانات السماوية، والتي تخالف في ظاهرها قاعدة السِلْم والتسالُم إنما شُرّعت للحفاظ على هذه القاعدة الأساس ( الوحدة والانسجام الاجتماعي) قال تعالى ( لا إكراه في الدين).
من هذه المقدمة نؤكد القول بأن الوسطية هي موقف و سلوك نتيجة ثقافة أصيلة في الفطرة الإنسانية.
فمن الناحية التاريخية ، تعكس التجمعات السكانية والعلاقة بين مكوّناتها المتنوعة والمتعددة – عبر التاريخ القديم والحديث وعبر المساحة الجغرافية الواسعة فوق الكرة الرضية – صورة دقيقة جدا عن قواعد راسخة متحكّمة لدى أطراف هذه التجمعات و ضوابط تحكّم التعامل فيما بينهم.
كما يمكن اعتبار الحضور الحديث لمصطلح ( الوسطية ) وتداوله بكثافة وبصورة أكثر من السابق انعكاساً لحالة طارئة لها علاقة مباشرة بالتوترات التي يشهدها العالم ونسبة مرجع ومنشأ ذلك إلى المسلمين, ومع كل ما نراه من هذه التغيّرات الطارئة إلاّ أن الحالة التاريخية في منطقة الأحساء تكشف عدم أصالة التوتر والاضطراب في الفكر الإنساني عموماً وفي ثقافة أبناء هذه المنطقة بشكل خاص، وقد أشار الرحالة الدمشقي السيد مرتضى بن علي بن علوان عن هذا الواقع بعد رحلته إليها في أوائل القرن الثاني عشر الهجري بقوله « واجتمعنا ببعض أهل البلد من الفريقين وكل منهما راض عن الآخر»[1]
وتشكل حاضرة الأحساء التاريخية أحد أبرز التجمعات السكانية في الجزيرة العربية التي احتضنت التنوع المذهبي الإسلامي وبرزت فيها الوسطية بصورة إيجابية عبر تاريخ طويل جدا من تاريخها الاجتماعي الزاهر الذي مثل قاعدة السِلْم والتسالُم معززة بالتسامح و الألفة. .
ومما لا شك فيه أن هذه الحالة الوسطية والتسامح و الألفة الاجتماعية من الأمثلة التاريخية المهمة التي مثلها المجتمع الأحسائي بصورة لافتة و لم تكن حالة طارئة بقدر ما هي ثقافة متأصلة في ثقافة أبناء ذلك المجتمع بتعدده المذهبي و بما يمثله هذا التعدد والتنوع بمذاهبه الإسلامية الخمسة و هي المذاهب الأوسع انتشاراً ، بل إن حاضرة الأحساء احتضنت في فترات تاريخية مراكزَ علمية لتلك المذاهب وهذا يشير إلى حالة انسجام وقابلية على احتواء هذا التنوع بصورته الايجابية دون حدوث ما يخدش هذا الانسجام وبخلاف ما رايناه تاريخياً في مثل التجمعات المختلطة كمنطقة الشام ومنطقة الحجاز والعراق.
و في السطور التالية بحث تاريخي يستعرض التسامح الاجتماعي في حاضرة الأحساء في جانبين من أهم الجوانب الحياتية للإنسان وهما التعليم والقضاء استناداً لفترة تاريخية محددة و ممتدة من 1150هـ وحتى 1350هـ و يأتي هذا التحديد لأسباب عدة ، هي :
1. التحديد التاريخي يحقق و يستوفي الغرض المحدد لهذا البحث.
2. لا يمكن اعتبار الاستقرار الاجتماعي المحلي في منطقة الأحساء لهذه الفترة نتيجة للواقع المحيط بها و هو يشهد عدم الاستقرار السياسي.
3. إن تغيّر الحكم السياسي فيها منذ سقوط دولة الجبريين في القرن العاشر وحتى قيام الدولة السعودية الثالثة أقرب للتأثير السلبي على استقرار الحالة الاجتماعية في مجتمع يبدو فيه التنوع المذهبي.
4. شمولية المدة المحددة لمراحل سياسية مختلفة.
ومع كل ما تقدم من الأهمية يجب ملاحظة أن العدد القليل من الوثائق المدونة كمصدر لا يعني انحصار هذه الشواهد والدلالات عن حالة التسامح والوسطية في هذا المجتمع.
ملامح تاريخية:
من المؤكد أن دخول الإسلام إلى حاضرة الأحساء و الاستجابة السريعة للدعوة المحمدية كانت أهم منعطف تاريخي لها ، فقد عاشت هذه الحاضرة وسكانها مرحلة استقرار نسبي، إلاّ أنها شهدت أحداثاً تاريخية مهمة لا يمكن إغفالها كثورة الزنج في البصرة وامتدت إليها، كما كانت مركزا للدولة القرمطية ثم دولة العيونيين الذين أطاحوا بهم وحكموا حتى عام 630هـ . ثم جاء العقيليون الذين أطاحوا بهم ثم بنو جروان حتى قامت دولة الجبريين الذين تصدوا ووقفوا في وجه المد البرتغالي على المنطقة حتى هبّ العثمانيون لحماية الجزيرة منه، ثم بنو خالد ثم العهد السعودي الأول وتوالت الأحداث حتى عاد العثمانيون مرة أخرى وتم إخراجهم على يد الملك عبدالعزيز بدخوله قلعة الكوت ليعلن ضم الأحساء إلى نفوذ الدولة السعودية الحديثة وكان ذلك ليلة الخامس من جمادى الأولى في سنة1331هـ .
و لا يخفى الجانب الاستراتيجي الكبير والخطير الذي تمثله حاضرة الأحساء من الناحية الاقتصادية والجغرافية مما جعلها محط اهتمام الصراع الدائر حينها بين كافة أطرافة التركي والمصري والسعودي والمحاولات البريطانية الخفية مع ملاحظة جديرة بالاهتمام وهو أن أغلب الصراعات التي دارت في الفترة المحددة – مادة البحث – كان طرفها المحلي هم القبائل المحيطة بحاضرة الأحساء كقبيلة العجمان وقبيلة بني مرة وقبيلة الهواجر ولم يكن المجتمع الأحسائي المتحضر والمتمدن طرفاً في أغلب تلك المواجهات والصراعات التي دارت في تلك الفترة بل إن ذلك المجتمع دخل في مواجهات مع بعض هذه القبائل كلما اختل التوازن لأسباب اقتصادية أو سياسية بين هذه القبائل والحكم السائد آنذاك.
وقد أشار إلى تلك الأهمية أحد الباحثين كنتيجة لفصل من فصول كتابه بقوله « أن الأحساء كانت تشكل المفتاح الرئيسي بالنسبة لنجد ، وكانت تغري الدول التي تقوم هناك بالتوجه إليها لتأمين الاتصال الخارجي والتجارة بالإضافة إلى تامين الموارد الزراعية الموجودة بكثرة ويسر في الأحساء والتي كانت نجد دائماً بحاجة إليها»[2]
وقد تسبب عدم الاستقرار وانعدام الأمن في أواخر العهد العثماني إلى تأخر الحركة العلمية إذ كانت الأحساء تزخر بحركة علمية وكان لعلمائها شهرة واسعة تتجاوز المحيط المحلي إلى الإقليمي وعموم الجزيرة العربية ويشير إلى هذه الحقيقة الشيخ محمد بن عبدالله العبدالقادر بقوله :
لقد علم القوّام أن حِمى الحسا……….. قديماً بأنواع المعارف مُخصبُ
وبالعلم والآداب تزهو ربوعه………….. يسر قلوب الوافدين ويُعجب
المدارس العلمية :
لا يخفى ما تمثله الحركة العلمية في الواقع الاجتماعي من التمدن والتأثير في العلاقات بكافة اتجاهاتها و في كافة جوانبها ، و نستطيع القول بلا تحفظ كما ينقله الواقع التاريخي أن لمنطقة الأحساء خاصية تميّزها عن محيطها الإقليمي بهذه الحركة حتى غدت المرجعية الأولى في الخليج والجزيرة العربية.
ولعل قصيدة الشيخ محمد بن أحمد العمري الموصلي (المتوفى في عام 1215هـ) – المطولة[3]- التي نظمها بعد زيارته للأحساء في عام 1180هـ والتي مدح فيها علمائها و أطراهم بالثناء تنقل جانباً من تلك الحركة العلمية، ومما جاء فيها:
وبقيت منتقلاً إلى أن جئت في / بلد الكرام معادن الإسْداءِ
أعني بها الأحساء أحسن مِلء ما[4] / في الأرض من بلد بغير مِراء
فأقمت فيها مدة أجني جَنى / ثمرات روضة لذة وصفاء
ووجدتُ أهليها مشائخ سادة / صافين من حسدٍ ومن بغضاء
كما أن تعدد المدارس الدينية في منطقة الأحساء نتيجة طبيعية للتنوع المذهبي لمجتمعها ،فقد شهدت تلك الفترة الزمنية حضوراً بارزاً لهذه المدارس حتى في الساحات العلمية الأخرى إلاّ أن تعدد هذه المدارس كان من الأمر اللافتة بحيث كان هذا التنوع في تلك الفترة يمثل المرجع الأساسي في الفقه و الإفتاء لإمارات الخليج المحيطة فكانت أسرة آل مبارك مرجعاً للمالكية و آل عبدالقادر مرجعاً للشافعية و آل ملا مرجعاً للأحناف وكان أساتذة و علماء هذه المدارس يتصلون ويتنقلون إلى الهند و إلى البصرة ونجد والبحرين والكويت من أجل الوعظ و الإرشاد والتعليم و كانت المدارس الإمامية بجوار تلك المدارس.
ومن هذه المدارس وليس حصرا :
1. حوزة آل أبي خميس (جعفرية) في مدينة الهفوف ، حي الشريفة.
2. حوزة سادة السلمان (جعفرية) في مدينة المبرّز ، حي الشّعَبة.
3. مدرسة الشهارنة (مالكية) في مدينة الهفوف ، حيّ الرفعة.
4. مدرسة النعاثل(شافعية) في مدينة الهفوف، حي النعاثل.
5. مدرسة آل غربين(مالكية) في مدينة المبرّز، حيّ الشّعَبة.
6. حوزة آل أبي خمسين(جعفرية) في مدينة الهفوف ، حي الرفعة.
7. المدرسة الشلهوبية ( حنفية) في مدينة الهفوف ، حيّ الكوت.
8. مدرسة العتبان (شافعية) في مدينة المبرّز ، حيّ العتبان.
9. مدرسة الشريفة (مالكية ) في مدينة الهفوف ،حيّ الرفعة.
10. مدرسة الشيخ بن فيروز (حنبلية) في مدينة المبرّز.
11. مدرسة شكر الله (جعفرية) في مدينة المبرّز ( لتعليم القراءة والحساب)
12. مدرسة آل عيثان(جعفرية) في قرية القارة.
13. مدرسة آل زين الدين (جعفرية) في قرية المطيرفي.
14. مدرسة بن خاطر (شافعية) في مدينة الهفوف، حيّ الكوت.
15. مدرسة اللويمي (جعفرية) في قرية البطالية.
وبلحاظ أسماء الأحياء نجد أن الحيّ الواحد يجمع أكثر من مدرسة واحدة بل إن مكان حوزة السلمان[5]( الإمامية) بمدينة المبرّز تقع في مقابل مدرسة الغربين(المالكية) ولا يفصل بينهما سوى الطريق وهو لا يتجاوز اربعة أمتار كما تشير وثيقة العقار “ربيش” المؤرخة في شهر شعبان من عام 1305هـ علماً أن هذه الأسرة ” آل غربين ” من ” المتابعين لمذهب السادة الحنابلة” إلاّ أن هذه المدرسة كما أشار أحد الباحثين من مدينة المبرّز ” مدرسة موقوفة لتدريس الفقه المالكي والسيرة النبوية والحديث “[6] ، وتشترك هذه المدارس في اهتمامها بالعوم الدينية والعلوم الأخرى المرتبطة كالفقه واللغة كما أن هناك عددا كبيرا من المدارس التي تتبع بعض هذه المدارس في أحياء أخرى كمدرسة راشد بن دهنين العماني والتي تأسست في عام 1292هـ وهي موقوفة على طلاب العلم و تشرف عليها أسرة آل ملا (حنفية)، وقد بلغت مكانة هذه المدارس أن أصدرت عددا من الإجازات العلمية لعلماء من مناطق أخرى ومنها ما نصّه:
« قال عثمان بن منصور من أعلاها ارويه به سندا ما أجازني بي شيخاي عليهما الرحمة الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي والشيخ محمد بن علي بن سعيد بن سلوم عن شيخهما الجليلين محمد بن عبدالله بن فيروز والشيخ عبدالرحمن الخرواوي فالشيخ محمد بن فيروز عن الشيخ محمد بن عبدالله بن عبداللطيف بن عفالق الأحسائي عن الشيخ الحافظ عبدالله بن سالم بالإمداد والشيخ محمد بن فيروز يروي مسند النخلي عن سعد بن محمد بن كليب بن غردقة عن الشيخ محمد بن أحمد النخلي وسند السيد عنهما معلوم فالحافظ عبدالله بن سالم البصري ثم المكي.. صح»[7]
وتُعدّ المدارس المذكورة مرحلة متقدمة نسبية، فهناك مرحلة تسبق الانتساب لها وهي مرحلة تعليم القراءة والكتابة(الكتاتيب والمطوّع) بطابعها الديني التقليدي ويظهر ذلك من وصف أستاذها بـ ( ملاّ أو مطوّع) وهي منتشرة في الأحساء بكثرة[8] بل ربما لا يخلو منها حيّ ومع أن طابعها أقرب إلى الطابع الديني استناداً إلى تسمية القائمين بالتعليم فيها والدور المنوط فالأستاذ يُسمّى مُلاّ أو مطوّع ، وكان تلامذته يشكلون فسيفساء ذلك المجتمع بمذاهبه الخمسة وقد عكس الباحث الشيخ محمد بن علي الحرز صورة اجتماعية عن ذلك الواقع بقوله « وجود الكتاتيب ووفرتها في المنطقة أسهم في نمو التلاحم وازدياده بين سكان المنطقة والتفاعل فيما بينهم حيث كانت المعرفة الخيط الرفيع الذي ربط الناس بعضهم ببعض في صورة شبكة متحدة لا تفصل بينهم عوائق طبقية أو عقدية أو قبلية، وإنما الكل يستظل تحت كنف العلم والمعرفة ويرتشف من رحيقه،إذ كانت الكتاتيب أحد وسائل كسب علاقات جديدة من شتى فئات المجتمع بمختلف تشعباتها بحكم المجاورة والزمالة في الدرس التيتستغرق معظم النهار يومياً»[9].
و لا ينبغي التقليل من أدب الكتابة و التأليف التي ملأت بطون المؤلفات والمصنفات العلمية التي كان من أهم مقوماتها تذييل اسم المؤلف أو مالك النسخة بمذهبه دون تحرج أو إثارة للغير، وهذا مما لا يمكن حصره بفترة زمنية محدودة، ومن ذلك ما يلي :
• نسخة من معالم التنزيل للبغوي عليه تملك للشيخ حسين بن عبدالله بن حمد بن عرفج ثم تملك محمد بن حسين بن رزق الحنبلي 1195هـ (محفوظة في مكتبة الأوقاف، الكويت، برقم (51)
• نسخة من دليل الطالب في ملك محمد بن غنام عام 1253ه جاء في آخرها (في نوبة الفقير إلى الله سبحانه وتعالى شأنه راجي كرم ربه العظيم محمد بن حمد بن غنام الحنبلي[10] مذهبا التميمي نسبا) (مكتبة الأوقاف، الكويت، 96(.
ولم يقتصر الأمر على التصنيفات والمؤلفات بل تجاوز ذلك إلى تواقيع القضاة وتقريراتهم في عقود البيع و الفصل بين الخصوم وغيرها من الوثائق التي تحفظ حقوق الأفراد والعامة دون أن يكون لذكر المذهب وتحديده أكثر من التعريف والتحديد ، وهذا أحد الجوانب المضيئة لشفافية المجتمع و القواعد التي تنسج علاقاته الاجتماعية وتؤسسها على مبدأ ” قبول الآخر” فقد كانت العلاقة بين العلماء وثيقة تكشفها الزيارات الودية المتبادلة والقصائد الأدبية التي نظمت خلال تلك الزيارات كما جرى بين سماحة آية الله السيد ناصر السلمان( توفي في عام 1358هـ) ومن ذلك ما أرّخ به سماحته بناء بستان فضيلة الشيخ محمد بن عبدالرحمن الكرود (ت في عام 1372هـ) وتتضمن إحدى تلك الزيارات وهي[11] :
سرت بوجيفٍ تحّث السرى / لقـوم بهـم ينجلـي الغيهـب
نجائبُ أرست بربـع العلـى / ونـادٍ بـه الـجـود يستـعـذب
به عاشقات الهوى كالدجـى / وأزهـارهـا أنـجــم تـلـهـب
يغنـي النسـيـم بأغصانـهـا / فيرقصهـا صوتُـه المطـرب
ومن تحتها قد جـرت أنهـر / كصبـح دجاهـا بـهـا يثـقـب
وناهيك في الحسن حمّامـة / بزهرتـه مـن يـرى يعـجـب
بـه الغـمُ يـذهـب إن جئـتـه / فـأرّخْ «بزهـرتـه يـذهـب»
ومع هذا التنوع المتعدد ذي المشارب المختلفة كانت تسود بين منتسبيه الألفة والمحبة والثقة فيتتلمذ بعضهم على بعض فالحنبلي في شيوخه من هم من غير مذهبه وكذلك المالكي والحنفي والشافعي يأخذ بعضهم من بعض وقد برز من كل مدرسة من المدارس المذكورة عدد من العلماء الذين صنفوا عددا من المؤلفات أو تركوا آثاراً علمية مهمة لمدارسهم الفقهية ومن الأمثلة على ذلك[12]:
• شرح عقيدة الغزالي للفاسي، الناسخ محمد صالح بن حسين بن محمد بن غنام سنة1173هـ (مكتبة الأوقاف، الكويت 367/1).
• نسخة من شرح دليل الطالب، بخط كاظم الحاج عبدالله طعمه الشافعي في 1235هـ وعليها وقف بخط الشيخ عبدالعزيز بن حمد بن سيف العتيقي عام 1235هـ (مكتبة الأوقاف، الكويت،182).
• المهذب البارع في شرح مختصر الشرائع، لفهد العباسي الحلي(على المخطوطة تملك جاء فيه: “هذا الكتاب من تملكات العبد الفقير شيخ حسين بن الشيخ بدر الدين)، وأسفله )انتقل إلى ملك الأقل نقي بن الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي بالبيع 1238هـ الختم)
• فتوى في الميزان للشيخ أحمد بن حسن بن عامر الأحسائي (ت 1183هـ) (فهرس المخطوطات الأصلية، الكويت، 449/2).
• نسخة من عدة المنكر في النهي عن استعمال كل مسكر ومفتر للشيخ عبدالله بن أبي بكر الملا الحنفي الأحسائي الواعظ (ت 1309هـ) نسخ سنة 1285هـ (فهرس المخطوطات الأصلية ، 534/2).
• المنهج القويم في مسائل التعليم لابن حجر، نسخة محمد بن عبدالرحمن الشافعي الأحسائي سنة 1173هـ وعليها تغييرات عديدة (فهرس المخطوطات)، الكويت.
و هذا قليل من كثير أوردناه للتوضيح والتبيين وليس حصراً مع التأكيد على خلو كل تلك المصنفات من المعارضات بين بعضها بعضاً ، وقد ذكر الأستاذ المشارك بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء الدكتور عبدالرحيم الهاشم في لقاء معه بأن « أصحاب المذاهب يعيشون منذ القدم وخاصة في منطقتنا في وفاق ووئام وكل يستفيد من الآخر ويدرس معه وعلى يده»[13] فنجد أن الشيخ أبا بكر بن محمد الملا (1198- 1270هـ) من أتباع المذهب الحنفي تتلمذ على يد الشيخ عبدالله بن أحمد الجعفري وهو من علماء الشافعية وعلى يد الشيخ السيد محمد بن السيد أحمد العطوشي وهو من علماء المالكية كما أنه يروي بالإجازة عنهما[14]
وأما الشيخ محمد بن عبدالرحمن الكرود ( ولد في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري في مدينة المبرز ) فتتلمذ «على العلامة الشيخ عبدالله بن سعد بن حماد الحنبلي النجدي والعلامة الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف الموسى المالكي والعلامة الشيخ عبدالله بن أبي بكر الملا الحنفي والعلامة الشيخ علي بن محمد العبد القادر الشافعي»[15].
وعلى ذلك يمكن القول إن وجود هذا التنوع الثقافي المنتِج والمنتَج لا يمكن أن يوجد في بيئة لا تعرف الوسطية والتسامح بين كافة مكوناتها الاجتماعية لذا نجد التأثير الإيجابي في سلوك العامة من الناس بين بعضهم حتى نجد الأخوة من الرضاعة من كافة أبناء المذاهب المختلفة منتشرة في هذه المنطقة و من الأمثلة على ذلك ما بين السنة والشيعة.
ففي مدينة المبرّز وفي حيّ الشعَبة فقط[16] تحديداً نجد الخطيب ملا ناصر بن حسين النمر (1318-1395هـ)[17] و محمد بن علي الدجاني الناصر (بوشاكر) متوفى في حدود عام 1385هـ وهما من أتباع المذهب الإمامي، لهما شقيق من الرضاعة، يدعى عيسى الشويكة وهو سني المذهب من مدينة المبرّز.
كما أن الإمامي المرحوم يوسف بن علي النمر(1339-1402هـ) ، له شقيق من الرضاعة، اسمه عبدالله المساعد، وهو من أسرة سنية المذهب من مدينة المبرّز.
كما أن للحاجة نورة بنت أحمد المحمد علي ( مولودة في حدود عام 1340هـ )[18]، ولا تزال على قيد الحياة بعناية الله وحفظه، وهي إمامية المذهب، وقد أرضعتها امرأة من أسرة سنية المذهب هي ( أم يوسف الفرحان) من مدينة المبرّز.
كما نذكر المرحوم عايش بن محمد النمر(1342-1413)هـ[19]، وهو إمامي المذهب، قد أرضعته امرأة ليست إمامية المذهب، وله منها أشقاء من الرضاعة، منهم والد الأستاذ سعد العوض و مبارك العوض[20].
القضاء الشرعي:
تكشف الوثائق التاريخية المدونة في تلك الفترة الزمنية – مادة البحث- في منطقة الأحساء عن صورة واضحة من التسامح الاجتماعي والاحترام الكبير في الوسط الاجتماعي و الدعم من الوسط الرسمي أيضا إذ « لما جاء الحكم السعودي كان الأمير عبد الله بن جلوي لا يرد للشيخ قضية ومن كلماته الشهيرة للشيخ موسى ” اقضي يا شيخ موسى[21].ومن يعترض على حكمك أرسله ألي »[22] فلم يرتبط القضاء الرسمي بمذهب واحد حيث نجد القاضي الشافعي والجعفري والمالكي والحنبلي والحنفي يؤدون دورهم الشرعي مع ذكر مذهب القاضي في الوثائق في بعض الأحيان، دون أن يكون لهذه التسمية أي مطعن أو مأخذ في مشروعية الوثيقة، ودون أي تأثير سلبي لمثل هذه الإشارة في أوساط المجتمع.
وقد أصيبت الثقافة العامة في عصرنا الحاضر بمؤثرات سلبية حول التعدد المذهبي، الذي كان، في ما يراه كثير من الباحثين، من الروافد العلمية المهمة.
وقد وصف الباحث الشيخ محمد بن علي الحرز القضاء قبل عام 1331هـ بقوله« كان القضاء يأخذ صفة مستقلة عن السلطة الحاكمة عبرقيام الأعلام من علماء المنطقة إضافة إلى نشاطهم الديني من صلاة الجماعة والوعظ والإرشاد بدور القضاء الذي لم يأخذ صفة رسمية ولكنها ممضى من قبل الدول المتعاقبة على الحكم في الأحساء وذلك لما لمثل هذه الشخصيات من مكانة مرموقة فيالمجتمع تتجاوز أي صفة رسمية أو حكومية يمكن أن تتدخل في المهام الإصلاحية لها »[23]
ومن الوثائق التاريخية التي يبرز فيها التنوع الفقهي في الساحة العملية مع انعكاس إيجابي على الواقع الاجتماعية ما نراه في عدد من الوثائق التاريخية، كما يلي:
• وثيقة مؤرخة في 24/4/1159هـ جاء فيها:
« صحّ ما هو مبيّن وأمضيته و أنفذته. حرره راجي عفو ربه تعالى(……)[24] محمد بن الشيخ حسين العدساني الشافعي القاضي بالأحساء المحروسة سامحهما الله تعالى بمنّه وكرمه»
(مذيلة بخاتم الشيخ)
• وثيقة مؤرخة في شهر ربيع الثاني من عام 1262هـ جاء فيها:
« الحمد لله ثبت لدي ما ذكر في هذه الحجة من وقوع الوكالة والصلح وقبض عوضِهِ بشهادة من ذكر فيها فصحّ ذلك ، حرره الأقل عبدالله بن عبدالرحمن بن عمير الشافعي المولّى قضاء الأحساء المحروسة سامحه الله »
(مذيّلة بخاتم الشيخ)
• وثيقة مؤرخة في شهر شعبان من عام 1305هـ جاء فيها:
« الحمد لله وحده وصلى الله وسلّم على من لا نبي بعده أما بعد فقد أفتيت بجواز وصحة هذا الاستبدال لكونه أنفع لجهة الوصية بشرطه المسوّغ وللمصلحة الراجحة في ذلك ، كتبه الأقل عبدالله بن سعد بن حماد الحنبلي عفى الله عنهم بمنه وكرمه»
(مذيّلة بخاتم الشيخ)
وبالإضافة إلى ذلك فقد كان للفتاوى المتنوعة حضور و نفوذ يتمم ما سبق ذكره في تأصيل حالة الانسجام الاجتماعي وذلك من خلال إمضاء القاضي لفتاوى المذاهب الأخرى ، فقد جاء في وثيقة مبايعة لثلاثة شطبان المسمّى “فوقي بن سعيد الكائن بطرف الشهيبي ساقية ثبر الخسيف” فتوى لفقيه مالكي (الشيخ عبدالله بن أبي بكر الملا) وهي مؤرخة في 12صفر1283هـ ما يلي :
« أقول و انا الفقير إلى الله تعالى عبدالله بن أبي بكر الملا بأني أفتيت بما تضمنته هذه الحجة من استبدال الوقف بما هو أنفع لجهته بشروطه وذلك بعد الاذن في ذلك من خادم الشرع الشريف الشيخ عبداللطيف ابن الشيخ مبارك لثبوت ذلك عنه كما هو مقرر في كتب أئمتنا الحنفية رحمهم الله تعالى »
(مذيلة بخاتم الشيخ)
وفيما يلي إمضاء هذه الفتوى من قبل القاضي المالكي (الشيخ عبداللطيف بن مبارك) وصدّرها في الوثيقة بالتالي:
« ثبت هذا الاذن مني و أفتيت بصحة هذه الفتوى على مذهب الإمامين(الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد) لأجل المصلحة ، كتبه عبداللطيف بن مبارك عفى الله عنه »
(مذيّلة بخاتم الشيخ)
وكانت الوثيقة المشار إليها ذكرت ما يلي :
« والمسوّغ لنقل الوصية المذكورة استيلاء الخراب عليها وانقطاع الريع منها وعدم الطمع في إمكان عمارتها لقلة الماء وتقليد الإمامين المعظمين الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد رحمهما الله تعالى وعليه جرى قضاة السادة الشافعية في الوصايا ولأحظية المنقول اليد وقراره »
إن ما جاء في الوثيقة السابقة صورة معبّرة عن هذه المساحة الواسعة من الحالة الوسطية التي يعيشها ذلك المجتمع في ساحته الدينية وهو القضاء وفي ساحة إجراءه وتنفيذه وهو تقبل العامة له واحترامه وتقديره.
وفي وثيقة أخرى تكشف و تؤكد هذه الحالة بعد فترة زمنية وتحديدا في شهر شعبان من عام 1305هـ ، فتتحدث الوثيقة عن بيع عقار باسم ” ربيش ” إذ كان موقوفاً وآل إلى الخراب ومما جاء في هذه الوثيقة ما يلي :
« وقد خرب ربيش المذكور وتعطلت منافعه وانعدم ريعه بالكلية وكان استبدال الوصية إذا خربت وتعطلت منافعها بما هو انفع لجهتها و أحسن صقعا جايز في مذهبي الإمامين المعظميّن الموصوفين بالخشية والخيفة الإمام أحمد و الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إذا حصل الأحظية والغبطة و الإذن للناظر المتولّي من صاحب النظر في المصالح »
(مصدرة بخاتم الشيخ علي بن محمد بن عبدالقادر- الحنفي- والشيخ عبدالله بن سعد بن حمّاد)
وفي ختام هذا البحث المختصر أرجو أن أكون قدمت صورة صادقة عن حالة من الوسطية والتسامح الاجتماعي في منطقة من أهم المناطق التاريخية من الحواضر الإسلامية اجتمع فيها التنوع المذهبي عبر قرون عديدة و لا تشوبها بعض الحوادث الفردية التي وقعت بين فترة ويظهر بوضوح خروج تلك الحوادث عن المألوف و علاقتها المباشرة بالعوامل غير المحلية.
(*) نشرت هذه الدراسة في مجلة كلمة العهد بالعدد(6).
[1] – العلامة الشيخ محمد آل رمضان الأحسائي: للأستاذ حسين جواد الرمضان ص 5-6، نقلاً عن رحلة ابن علوان.
[2] – تاريخ الأحساء السياسي، د.محمد عرابي نخلة ،ص 33.
[3] – أشار إلى تلك القصيدة المؤرخ الحاج جواد الرمضان وأن عدد أبياتها 168 في كتابه ” مطلع البدرين ” ج1 ،ص 68 ، في ترجمته للشيخ إبراهيم آل غيث.
[4] – وفي صيغة أخرى ص187 جاء البيت كما يلي ( جئت إلى الأحساء أحسن كلما في الأرض من بلد بغير مِراء)
[5] -وهي في منزل سماحة المرجع الديني آية الله السيد ناصر السلمان(1291-1358)هـ
[6] – الأستاذ عبدالله بن عيسى الذرمان ، صحيفة الجزيرة السعودية ، يوم الأحد10 شوال 1428 ،العدد 12806
[7] – صحيفة الرياض الجمعه30 ذي الحجة 1427هـ – 19 يناير 2007م – العدد 14088( من نوادر التراث العلمي لبلاد الأحساء- ح5)
[8] – جاء في لقاء صحفي بصحيفة اليوم في عددها رقم 10674 بتاريخ 27/6/1423هـ حول كتابه ” التعليم التقليدي في الأحساء” مع الباحث الشيخ محمد بن علي الحرز قوله ” اعتمدت في البحث على المعلومات من خلال المقابلات الشخصية مع الكثير من الأفراد في المدن والقرى، وقد رصدت أسماء من قاموا بمهنة (المطوع) منذ العام 1290هـ حتى العام 1390هـ، ويصل عددهم خلال هذه الفترة 408 مطوعين ومطوعات.
[9] -المصدر السابق.
[10] -قال الباحث الأستاذ جواد الرمضان في كتاب” مطلع البحرين ” في ترجمته ص573 من ج2 ما نصّه” الشيخ حسين بن أبي بكر بن غنام التميمي المالكي الأحسائي المتوفى سنة1225هـ”انتهى، و أوضح استناداً لوصف الدكتور الحلو بقوله عن الشيخ بن غنّام ” وتفقه على مذهب الإمام مالك وبرع فيه فكان علاّمة زمانه واتصلت أسبابه بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فكان سلفيّ العقيدة”
[11] – دور علماء الأحساء في بناء الوحدة الوطنية ، بحث للشيخ محمد بن علي الحرز منشور في موقع مركز العهد الثقافي بتاريخ 1/9/2005م .
[12] – صحيفة الرياض الجمعه30 ذي الحجة 1427هـ – 19 يناير 2007م – العدد 14088( من نوادر التراث العلمي لبلاد الأحساء- ح5).
[13] – لقاء مع موقع www.islamweb.net ونشر في 21/12/2006م.
[14] – كتاب ” مطلع البدرين” للباحث الأستاذ جواد علي الرمضان ، ج2،ص 369.
[15] – موقع ويكبيديا ، مادة الشيخ محمد بن عبدالرحمن الكرود.
[16] – إن البحث محدد بمحورين هما التعليم والقضاء فقط ، و إلاّ فالعلاقة الاجتماعية والمهنية ساحة كبيرة جدا لا يمكن حصرها في مثل هذه السطور ، وما ذكر هنا إنما هو استشهاد بتأثير وانعكاس التسامح في السلوك و ما دونته هنا هو ما ظهر في فترة إعداد البحث وبحكم علاقتي بهذا الحيّ، وهي فترة وجيزة وقصيرة لا تتجاوز عشرين يوم.
[17] – من كبار خطباء الأحساء وأدبائها، ترجم له السيد داخل حسن في كتابه ” أدباء المنبر الحسيني”، وترجم له السيد هاشم الشخص في كتابه ” أعلام هجر” وهو جدّ لكاتب البحث من أبيه.
[18] – وهي جدّة لكاتب البحث من جهة أمه.
[19] وله أخ يصغره بأزيد من عشرين سنة، وهو على قيد الحياة، هو الحاج عبد الله بن محمد النمر، هو أيضاً ممن ارتضع من المرضعة المذكورة.
[20] – الأستاذ مبارك العوض شخصية أدبية مرموقة في المنطقة و قد عمل في الصحافة لفترة زمنية.
[21] هو سماحة آية الله الشيخ موسى بن عبد الله بن الشيخ حسين بن الشيخ علي آل أبي خمسين(1296-1353)هـ
[22] -(القضاء الجعفري في الأحساء) نظرة تاريخية ، الشيخ محمد بن علي الحرز، بحث منشور في موقع مركز العهد بتاريخ 1/6/2006م.
[23] – المصدر السابق.
[24] كلمة غير موجودة في صورة الوثيقة
تعليقات
إرسال تعليق