(البرواز والنجار)....... قصة قصيرة
كانت قرية هادئة تقطنها أسر متعددة، تجمعهم مصالح متعددة، منظومتها الاقتصادية تتكون من مصانع متعددة الملاك والتجار، متفاوتة القدرة في ما بينها، ولكنها تدار جميعا وتعمل من قبل أبناء هذه القرية الذين تجمعهم وشائج قربى ومصاهرات، بحيث كانوا أشبه بالأسرة الواحدة من حيث الانسجام في المجموع.
وفد على هذه القرية (شيخ) فبجلوه ووقروه، حتى تربع على هرم هذه القرية، فأصبح يمثل هرم النفوذ الاجتماعي والديني، ثم امتد نفوذه ليشمل الجانب الاقتصادي ولكن (بصورة غير مباشرة) .
المنظومة الاجتماعية في القرية، كانت تعمل بشكل جيد جدا، فكان الجميع ينعم بمردود هذا الانتاج، وبين الحين والآخر تقدم النذور والبركة إلى (شيخ) القرية، فكان نفوذه يتمدد في القرى الأخرى المجاورة، نتيجة للوضع الاقتصادي المتمكن والمتفوق في هذه القرية، إلى بقية القرى المحيطة، فكان محط تملق أيضا من الباحثين عن الجاه والوجاهة.
كان من ضمن العاملين والقاطنين في هذه القرية أسرة، وكانت ذات سمعة طيبة بين الجميع، وكانت لديها القابلية والإمكانيات التي كان حتى (بعض) سكان القرية يتداولون بينهم حول هذا التميّز فيلمزونهم بمصطلح ( آل بو.) مستخلصين ذلك من غرور و(تنمر) عانوه من (بعض) المحسوبين على هذه الأسرة.
سارت حياة أسر هذه القرية لعقود في حالة من طيب العيش وراحة البال، ثم بدأ همسٌ حول اكتشاف (إرث) ثمين لهذه الأسرة، فتحول الهمسُ الى حديث مجالس، وبعد سنوات من التحقق والبحث وبذل الجهد، ثبت بما لا يدع مجالا للشك، لأكثر رجال ونساء هذه الأسرة أحقيتهم لهذا الإرث الثمين، لما رسخ في ثقافتهم ووجدانهم عن ذلك الأمر لأجيال متلاحقة وبما تناقله كبارهم، فأعلنوا ذلك لأهل القرية والقرى الأخرى، لما سيترتب على ذلك من أمور لاحقة.
ولوجود خلافات (سابقة) في داخل هذه الأسرة، ولوجود مصالح اقتصادية واجتماعية (مشتركة) لبعض المعترضين مع (شيخ) هذه القرية، أعلنت هذه القلة القليلة، رفضها واعتراضها على استلام هذا (الإرث) المشترك، للأسباب السابقة، ولخشية المعترضين أن يكتسب مكتشفوا هذا (الإرث) مكانة، على حساب نفوذهم الديني والاجتماعي، بل إن هؤلاء المعترضين ظنوا أنها فرصة متاحة لتسقيط من اختلفوا معهم (سابقا) فهبّوا لاستغلال الحدث، بالترويج للطعن والاتهامات حيث (لا برواز ولا نجار) ولا ترهات، مما لا ينسجم مع تاريخ هذه الأسرة الناصع والظاهر أمام الجميع، بل وتجاوز المعترضون بذلك كثيرا من الآداب والأعراف الاجتماعية في هذا السبيل دون تحفظ منهم، بوضع كل العراقيل لمنع استلام الورثة لإرثهم (المستحق).
ومما ساعد المعترضين على ذلك، وجود تاريخ ناصع، صنعه رجال ونساء الأسرة، ومستغلين بذلك انتمائهم لهذا التاريخ المحمود، بمشاركة من حملوا أوهام التكسب من استمرار هذا الشرخ في الأسرة (حيث لا برواز ولا نجار) بعد.
حينها، بدأ (شيخ) هذه القرية بمد يده (الباطشة) مستغلا نفوذه وهيمنته لمساندة القلة المعترضة، سرا وإعلانا، خشية أن تصاب قنواته وامتيازاته، وإمكانية تحول هذه الأسرة التي تُوجت بهذا (الإرث) وآخرين عن قنواته، لما يتوفر لدى أصحاب (الإرث) من إمكانات لا يستهان بها، تماثل إمكانياته التي تزعّم بها على هذه القرية، إن لم تتفوق على إمكاناته ذاتها، وما سيؤدي ذلك من تأثير كبير على مكانته في القرية، وتقليص دوره - كما يتوهم - في دورة القرية الاجتماعية والتقليص من مكتسباته الاقتصادية بعدها.
قاوم المعترضون بكل ما لديهم من نفوذ ووجاهة ورهبنة - في الظاهر- وبكل ما استمدوه من (شيخ) قريتهم ومن غيره من المتنفذين لنقض أحقية هذه الأسرة بهذا الإرث، حتى أن هذا (الشيخ) بدأ يظهر في المحافل بحلة كان قد هجرها لأكثر من نصف قرن، في محاولة منه لتثبيت هذه المكانة التي خشي أن يخدشها الحدث المستجد في القرية.
بعد أن قامت تلك الأسرة - دون المعترضين - باستلام (الإرث) المستحق، اتّجه المعترضون بالبحث عن أدوات جديدة، بعد أن تم نقش الطعن والبهتان قبل العرش، منذ بدء ظهور بوادر الخلاف، لإظهار بطلان هذا الاستحقاق، مستغلين الأثر النفسي لدى غيرهم بالتورع، لإعلان رفضهم (ما هو مستحق لهم) على نهج (اقتلوني ومالكا/ واقتلوا مالكا معي)...!
هنا، انطلق المعترضون للبحث عما يحفظ ماء وجوههم، باصطناع الحيل والمكر، والبحث في مشارق الأرض وغربها عن(عرش لنقشهم) وعن كل ما يدعم موقفهم وما يشد أزرهم، للحفاظ على المساندة من أهل القرية، بعد أن استجاب لهم (بعض) من ظنوا أنهم سينالون حظا من المكانة أو شيئاً من البروز والحظوة الاجتماعية، بعد أن صدّقوا المعترضين، بأن غالبية الأسرة مؤيدة لهذا الاعتراض، ولم يكن في حسبانهم أن المعترضين قدموا أنفسهم بصورة مضخمة، فانخدعوا بها، كما انخدع بها سواهم.
التقط المعارضون صورة (مجتزأة) لأحد زوايا (الإرث) رأوا فيها بروازا (مصنعا حديثا) ظهر بعد أشهر من استلام (الإرث المستحق) فسعوا للتعرف على النجار الذي صنعه، فاستخدموا أقذر أساليب المكر والخداع، وعلى منهج (الغاية تبرر الوسيلة) لإسقاطه في حبائلهم، فحققوا بعض مرادهم، من خلال حسن
نيّة النجار، ليرفعوا (قميصا) استخرجوه بأحط الأساليب، لم يكن ليُصدق أنهم فعلوه، لولا إقرارهم به، ليتدرعوا به وليتخذوه ذريعة (وعرشا لنقشهم) لمخادعة أهل القرية ومحيطها لصرف أنظارهم عما قبل (البرواز والنجار).
عاد المعترضون بصيدهم الثمين، متخذين (البرواز) شماعة بنوا عليها كل حججهم وذرائعهم التي تناقض ذلك التورع الذي تمظهروا به، برفض استلام (الإرث المستحق) حين تزيّوا بغير زيّهم وتسمّوا بغير أسمائهم، وأقروا على أنفسهم دون حياء ولا خجل، بما فعلوا وما ارتكبوه من تضليل وممارسة خداع للآخرين...!
انشغل أهل القرية بقصة (البرواز والنجار) الحديث، وتلهى الحاقدون والحاسدون، وإمعانا لنقض فرحة تلك الأسرة بما نالها من خير وبركة، حولوا قصة (البرواز والنجار) إلى مسرحية دائمة العرض، لصرف الأنظار عن أصل (الإرث) وحقيقة وجوده وحديث الأسرة ومجالسها ومجالس غيرها عنه وأنه أمر سابق ومتقدم، بل إن ما ظهر من وقائع موثّقة لا يخفى، وأنه قبل وجود (البرواز والنجار).
وليصرف المعترضون أنظار الناس عن حقيقة الإرث وجذوره، ولتحقيق انتصارات اجتماعية (وهمية) غافلين عن أن قصة (البرواز والنجار) لم تظهر إلّا بعد استلام (الإرث المستحق) ولم يكن لها وجود في تلك القرية التي أدركت سابقا، بأجمعها، وأن الأحاديث عن جذور هذا (الإرث) سابقة ومتقدمة، دارت في مجالسهم، فلن تمحوها المسرحيات والقصص المتخيلة عن (البرواز) المصنوع للزينة، ولا استغلالهم (النجار) البسيط سينفي ما دار في مجالس القرية عن جذور هذا الإرث، كما أن قبول أكثرية الأسرة لم يستند على (برواز) حيث لم يُصنع بعد، ولا على إتقان نجار، حيث لم يتم التعرف عليه بعد، مهما كان المخرج محترفا.
ولأن لهذا (الإرث المستحق) حضوراً راسخا في ثقافة رجال الأسرة ونسائها، لم يترددوا في قبوله واستلامه متشرفين به، ولم تشغلهم مسرحية (البرواز والنجار) الهزلية ولم يقفوا عندها، حيث أنه تم إخراجها بعد فترة من استلامهم لما اطمأنوا بأنه حق مستحق لهم، وحيث أن محاولة نقض استحقاق البرواز (المصنوع حديثا) فلن ينقض استحقاق ما استندوا فيه على موروث في ثقافتهم وراسخ في وجدانهم.
اضطرب حال القرية، ولم يعد انتظام أهلها كما كان، واختل انسجام دورة المنظومة الاجتماعية (السابقة) ولم يخرج فيها منتصرا سوى من استلم إرثه المستحق، غير آبهين بـ(ويلات) من أطلقها محذرا منها، حيث تبين أنه رأسٌ من رؤوس صانعي تلك الويلات، فتحولت إلى وبال وويلات وقيود تكبّله وتكبّل من سانده.
أخذ (الشيخ) غفوة طويلة، بعد أن ساهم مع المخرج في إخراج بعض فصولها، حيث أنهكه استمرار العرض وهو مستغرق وحريص على استمرار العرض وديمومته.
عاش أهل القرية في حيص بيص وقد أصابهم الملل بعد أن حرص (شيخ القرية) لأكثر من عقد على استمرار العرض، ومع أن المخرج نجح في صرف أنظارهم عن أدلة استحقاق (الإرث) الحقيقية وعلق في مخيلتهم مشاهد قبيحة من مسرحية (البرواز والنجار) المصنوع حديثا للزينة (بعد إشهار الاستلام) من قبل المستحقين بشهور عديدة، كما يعلم جميع سكان القرية، حيث لا وجود لهذا البرواز، قبل تاريخ إعلان الاستلام، ولا وجود لسيرة هذا (النجار وبروازه) في أدبيات المستحقين ولا في إثبات مستحقهم، ولم يزعم المستحقون أنهم استندوا على هذا البرواز لقبول استحقاقهم، حيث لم يُصنع بعد، حين أعلنوا استحقاقهم له.
تسمّرت في مخيلة بعض أبناء القرية فصول رواية (البرواز والنجار) التي نُسجت إحداثها وروايتها في مخيلة مرتادي مسرح المعترضين على صورة ذلك (البرواز) الذي لا علاقة له بأدلة إثبات الاستحقاق، لا من قريب ولا بعيد، مندهشين منذهلين، بل عاجزين عن القدرة على الجمع بين ما رأوه في فصول تلك المسرحية الهزلية وما استقر في وجدانهم عن حال مستحقيه، ممن عرفوا تاريخهم ومن خالطوهم عقودا من الزمن، حيث لا تنسجم أبدا، مع فصول مسرحية تحمل أبشع وأحقر صور السقوط الأخلاقي لتشويه صورة مستحقي هذا الإرث، حيث لا يمكن تجاوز هذا التناقض إلّا بالرجوع لملف أدلة الاستحقاق، لما قبل قصة (البرواز والنجار) ومراجعة (ما كان يدور في مجالسهم) قبل إشهار وإعلان استلام الإرث المستحق.
انتهت فصول المسرحية ،ولكن لا يزال بعض المشاهدين في تيه التناقض والازدواجية، بعد أن استسلموا لمقولة (النقش قبل العرش)..!
٢ ذوالحجة ١٤٤١ هجري
تعليقات
إرسال تعليق