أنين «فلويد» يزيل المساحيق

مضى أكثر من نصف قرن ومنذ توقيع قانون الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩٦٤م، والذي يقضي بإقرار إنهاء التمييز العنصري ضد السود، بل كل أشكال التمييز القائمة على أساس الدين والمعتقد أو الجنس، ولا تزال الممارسات حاضرة بشكل يومي فيها..!
ما كشفه أنّين آخر الضحايا «جورج فلويد» وهمسته «لا أستطيع التنفس» يؤكد أن هناك جرائما ضد الانسانية تحميها تشريعات وقوانين تلك «الليبرالية والديموقراطية» ترعاها جهات رسمية وشبه رسمية، وأنها «قوانين وتشريعات» ضمن منظومة مستترة في صياغات وتقنين للتمييز والممارسات العنصرية، استطاعت أن تحوّل الملايين من البشر إلى أهداف مشروعة بسبب اختلاف لونهم، وتمنح مرتكبي تلك الجرائم براءة وحصانة لأفعالهم، أمام الجميع.
فإذن، أكثر من نصف قرن، لم تكن كافية لتفعيل قانون وتشريع «رسمي» لتطبيقه في دولة تمثل «نموذجا لليبرالية العالمية» وتمثل «نموذجا للديموقراطية الغربية» التي تبدو روحا نابضة في خطاب كثير من الناشطين في العالم الثالث، في سياق دعواتهم للانتقال بمجتمعاتهم للتشبّه والاقتداء بذلك «النموذج»...!
بعد أكثر من نصف قرن بدأت تتدفق صورة حيّة لما يناقض الصورة المحسّنة لروح تلك «الليبرالية» وتلك الروح «الديموقراطية» التي اجتهدت أكثر الوسائل الإعلامية المتنفّذة لتسويقها في مجتمعات العالم الثالث، لينكشف زيف وخداع ذلك الواقع الذي طالما كانت نفس تلك الوسائل الإعلامية هي خط الدفاع الأول لحجبه عن الآخرين، في تناقض عجيب للدور الذي تقوم به الآن، من خلال المساهمة في نقله أمام العالم، فماذا حدث لتتحول هذه الوسائل الإعلامية للمشاركة في نقض دورها السابق...؟!
«لا أستطيع التنفس» تحولت إلى شعار صاعق ورمز فضح وعرّى تلك المنظومة الليبرالية والديموقراطية التي «عطلت» تشريعا وقانونا رئاسيا لمدة تزيد على «نصف قرن» مما يستدعي الوقوف والاستفهام عن ماهية أدوات هذا التعطيل ومن وراءه...!
إذن، ليست المسألة هي مجرد قوانين أو تشريعات، هي تلك التي ترعى مصالح الناس وتسهر على أمنهم، إن لم تكن بيد «القوي الأمين» وإن لم تكن صالحة أيضا.
«لا أستطيع التنفس» لم تكن إلاّ «همسة وأنّة ضعيفة» ولكن ما أسرع أن تحولت إلى دويّ هائل صك مسامع سكان أرجاء القارات كلها، لتؤكد أن سنّ القوانين والتشريعات شيء وأن ممارسات حرّاسها -في قلب جغرافيا تلك «الليبرالية والديموقراطية»- على أرض الواقع شيء آخر، بل إن حالة من التكلس والإمعان في تلك الممارسات هي أحد عوامل تحوّل تلك «الأنّة الضعيفة» إلى بركان ثائر، انعكست آثاره في الوسائل الإعلامية ذاتها التي أسهمت سابقا بالتواطئ في كبت وحجب تراكم تلك المعاناة الإنسانية المتراكمة عبر عقود، بعد أن استبدلت وظيفتها الإعلامية، إلى دور تنفيذي لبسط الهيمنة والتسلط لشركات تجارية تبحث عن ارتفاع مكاسبها المادية وقيمة أسهمها في شاشات أسواق البورصات..!
لأكثر من «نصف قرن» لم تتجاوز صرخات وأنين آلاف من الأبرياء دهاليزَ بيوتهم أو أحيائَهم أو قُراهم، ممن كانوا ضحايا العنف والقوة العسكرية التي «فعّلت» قوانين تشريعات دولية، لشن حروب عسكرية على دول أخرى وتفتيت مجتمعاتها باسم تنفيذ القوانين والتشريعات، وكأن منظومة القوانين والتشريعات مجرد شعارات ترفع عند الحاجة.
ما يعيشه النظام الأمريكي من حرج شديد أمام العالم، ليس بسبب الجريمة ذاتها، بل بسبب ردة الفعل «الموحدة» من مواطنيه في مشهد يمثل انفصاما صريحا بين المواطن الأمريكي وبين النظام الذي يدّعي أنه يمثله، وبسبب ردة الفعل العالمية برفضها والاعتراض عليها وبسبب انكشاف التناقض بين ما يرفعه من شعارات «ديموقراطية وليبرالية» وبين سلوكه وممارساته العنصرية الإجرامية التي نفذها حرس قوانينه وتشريعاته في مظلتها وباسمها.
«لا أستطيع أن أتنفس» جملة فضحت بنية النظام التشريعي لدولة رفعت شعار«لا أريكم إلّا ما أرى ولا أهديكم إلّا سبيل الرشاد» ولكن بلغة «الديموقراطية والليبرالية» في العصر الحاضر.
١٥ شوال ١٤٤١ هجري
تعليقات
إرسال تعليق